التيسير في التشريع الإسلامي
أ . د/ خالد بن زيد الجبلي
إنّ الأمـة قـد ابتليت في هذا العصر بتقديم الـجـهـال على أهل الـعلم الراسخين ، وتوليتهم توجيه المجتمع ، فظهر التشدد ، واستغلته جماعات الغلو في تضييق الحياة على الناس .
فيسرفون في تحريم كثير من شــؤون الـحـيـاة ، ويـشـدّدون فـيـما حـقـه التيسير ، والله تعالى يقول ) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ( ]النحل . [116:
ومن هدي السلف الصالح في الفتوى أنهم لا يجزمون بالتحريم في كثير من القضايا ، فيقول أحدهم : أكره كذا . أو لا ينبغي كذا .
ولا ينبغي للمسلم أن يمتنع عن الرخصة التي رخّصها الله تعالى له ، ويسلك طريق التشدد في وقت المشقة والحرج ، ويدع التيسير .
وهذه الجماعات الغالية يعتبرون مـن يـخـالـف آراءهـم وقـنـاعـاتـهـم متهم في دينه ، ويسيؤون فيه الظن في كونه متهاون في الأخذ بأحكام الدين .
وهذا الدين إنما جاء لسعادة البشر ، ودفع الحرج عنهم والضرر ، فهو دين يسر وليس فيه عسر .
قـال الله تعالى )وَمَـا جَعَلَ عَلَيْـكُـمْ فِـي الـدِّيـنِ مـِنْ حَـرَجٍ ( ] الحج [78: )يـُرِيـدُ اللَّهُ أَن يُـخَـفّـِفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا ( ] النساء [28:
وفي صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال )إن الدين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلا غلبه.. ( .
وتبرز مظاهر التيسير في التشريع الإسلامي في التالي :
أولا: أن دائرة المباحات في الشريعة الإسلامية أوسع من دائرة المحرمات :
فممّا قرّره علماء الشريعة أن الأصل في الأشياء من تصرفات وأعيان وعقود هو الإباحة، حتى يرد ما يحرّمه من نصوص الشريعة .
فكل تصرف من تصرفات العباد مباح على أصله، حتى يثبت تحريمه في الشريعة، فعلى من يفتي بتحريمه أن يثبت ذلك من مصادر التشريع، لا يحكّم ذوقه وطبعه وهواه في تصرفات الناس.
ثانيا: أن الشريعة الإسلامية لا تُحّرِم إلا ما فيه مفسدة خالصة أو راجحة :
فالشريعة جاءت بالرحمة والعدل، فلا تحرم إلا المضارّ والمفاسد، فكل منهي عنه فهو مفسدة، حتى لو اشتمل على مصلحة ومنفعة، فهي أقل من المفسدة التي فيه ولابدّ .
فعلى المفتي أن يراعي هذه القاعدة الشرعية العظيمة في تعامله مع الحوادث التي تحدث للناس في هذا العصر، فما كان منها مشتملاً على مفاسد غلبت على ما فيها من مصالح أفتى بمنعه، وما كان منها مشتملاً على مصالح غالبة أفتى بجوازه ، فإنه يُعفى عما كان فيه من مفاسد، لأن هذه المفاسد أقل من مصالحه التي اشتمل عليها.
وهذه القاعدة هي محل اجتهاد ونظر، وما كان كذلك فلا تثريب على المخالف في تقدير المصالح والمفاسد إذا كان من أهل الاجتهاد .
وهي كذلك من صور تغيّر الحكم بناء على تغير وصفه المشتمل على المصالح أو المفاسد .
ومن الأمثلة التي تصدق عليها هذه القاعدة في حوادث الناس: قيادة المرأة للسيارة، فقد أفتى مشايخنا في المملكة العربية السعودية سابقاً بتحريمه، بناء على هذه القاعدة، وهو ما يترتب على قيادة المرأة من المفاسد التي راعوها في فتواهم، ولما اضمحلت هذه المفاسد، ولم يبق منها ما يعارض المصالح المشتملة عليها تغيرت الفتوى، وصارت قيادة المرأة للسيارة أمراً مباحا .
ثالثا: أن المحرمات في الشريعة لـيـست عـلى درجــة واحـدة فـي الـتـحـريم، فمنها ما حُرِّم تحريم مقاصد، ومنها ما حُرِّم تحريم وسائل :
فالمحرمات في الشريعة تتفاوت بحسب الضرر والمفسدة التي فيها، فما كان فاسداً في ذاته حُرِّم قصدا، وما كان دون ذلك حُرِّم سداً للذريعة، لأنه يفضي إلى ما هو أعظم .
فما حُرِّم سداً للذريعة أخف مما حُرِّم تحريم مقاصد .
فما حُرِّم لذاته: كالشرك بالله بالقول أو الفعل، والزنا، وأكل الربا، فهذا لا تبيحه إلا الضرورة، وهي خشية هلاك النفس بتركه، أو فوات عضو، أو منفعته .
وما حُرِّم سداً للذريعة: كتحريم نظر الرجل للمرأة الأجنبية، وسفر المرأة بلا محرم، ولبس الحرير والذهب للرجال، فهذا تبيحه الضرورة، وكذلك تبيحه الحاجة، وهي خوف الحرج والمشقة على النفس بتركه .
رابعا: أن من وقع في الـحـرام نـاسياً أو مـخطئا فـهـو معذور، لا يؤاخذ بفعله، لأنه لم يقصد ارتكاب الحرام.
وذلك كمن تكلم في الصلاة جاهلاً بالتحريم، أو من أكل أو شرب وهو صائم جاهلاً تحريمه، أو المحرم إذا تطيب أو لبس مخيطًا ناسياً .
خامسا: قلة التكاليف والواجبات في الشريعة الإسلامية.
فقد راعت الشريعة أحوال الناس، وضعفهم، وحاجتهم في السعي لمصالحهم الدنيوية .
فمما جاء في بيان قلة الواجبات في الشريعة حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه في - الصحيحين - قال: " جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته، ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرهن؟ فقال: لا، إلا أن تطوع. فقال رسول الله: وصيام شهر رمضان. قال: هل علي غيره؟ قال: لا، إلا أن تطوع. قال: وذكر له رسول الله الزكاة، فقال: هل علي غيرها؟ فقال: لا، إلا أن تطوع. قال: فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه. فقال رسول الله: أفلح الرجل إن صدق" .
سادسا: التكليف في الشريعة بحسب قدرة المكلف:
فلا واجب مع العجز عنه، بل الذي يلزم المكلف هو الذي يستطيع فعله، ففي صحيح مسلم ) وما أمرتُكم به فأتوا منه ما استطعتُم .. (
أ . د/ خالد بن زيد الجبلي
أستاذ الدراسات العليا بجامعة حائل